العلاقة بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية
تعتبر الحرية الاقتصادية أساس الحرية وهي الطريقة الأمثل لضمان الحريات المدنية الأخرى، توضح لنا هذه الرؤية أن محاولات تمرير قوانين أو تعديلات دستورية لضمان حريتنا السياسية تُعد إهدارًا للوقت طالما بقيت حريتنا الاقتصادية تغتصبها الحكومة.
مقالة بواسطة: محمد مطيع
نشر لأول مرة في مجلة وندرلاست
تعتبر الحرية الاقتصادية أساس الحرية وهي الطريقة الأمثل لضمان الحريات المدنية الأخرى، توضح لنا هذه الرؤية أن محاولات تمرير قوانين أو تعديلات دستورية لضمان حريتنا السياسية تُعد إهدارًا للوقت طالما بقيت حريتنا الاقتصادية تغتصبها الحكومة. بعبارة أخرى، سوف تتلاشى الحكومة المحدودة في مواجهة الدولة التنظيمية الحديثة ولا يمكن لأي قوانين أن تحمينا من حرمانها. فالاقتصاد لا يفوق السياسة فحسب بل يحدد تشكيلها.
السبب الجذري للتدخلات الاقتصادية هو الاعتقاد الخاطئ بأن الحكومة يُمكنها تحسين حياتنا من خلال اتخاذ قرارات اقتصادية لصالحنا. تُعتبر التدخلات الاقتصادية من قبل الحكومة بطبيعتها إكراهية. من ناحية أخرى، يتطلب التعاون الطوعي في السوق الوصول إلى نظام عدالة جنائية صادق لإنفاذ العقود وحماية حقوق الملكية.
في الصفحة 283 من كتاب Human action للاقتصادي لودفيج فون ميزس، شرح لنا كيف أن:
“الحرية كما استمتع بها الناس في البلدان الديمقراطية للحضارة الغربية في سنوات انتصار الليبرالية القديمة، لم تكن نتاج دساتير، وقوانين، وحقوق، وتشريعات. فكل تلك الوثائق تهدف فقط إلى حماية الحرية، التي أنشئت بحزم من خلال عملية اقتصاد السوق، ضد الانتهاكات والتجاوزات من جانب أصحاب المناصب الحكومية“
تطرق الاقتصادي فريديريك باستيا في كتاب القانون صفحة 49 لنفس الفكرة عندما قال أن:
“الاقتصاد السياسي يسبق السياسة: على الأول أن يكتشف ما إذا كانت المصالح الإنسانية متجانسة أو معادية وهي حقيقة يجب حلها قبل أن تتمكن الأخيرة من تحديد صلاحيات الحكومة“.
في بدايات القرن 19 كان لـ جيرمي بنثام وفلاسفة آخرين ميلًا لاعتبار الحرية السياسية وسيلةً نحو الحرية الاقتصادية. و آمنوا أنه إن أعطى الإصلاح السياسي عامة الشعب حق التصويت لعملوا ما في صالحهم والذي كان التصويت لسياسة عدم تدخل الحكومة في الشؤون الاقتصادية.
وبتأمل الأحداث الماضية لا يستطيع أحد القول بأنهم قد كانوا مخطئين في ذلك. ولقد كانت هناك إجراءات عظيمة من الإصلاح السياسي الذي رافقه إصلاح اقتصادي في توجه نحو تحقيق سياسة عدم التدخل تلك، وتبع هذا التغيير في الأنظمة الاقتصادية زيادة هائلة في رفاهية الطبقة العاملة.
رغم انتصار الليبرتارية البنثمايتية في القرن 19 في بريطانيا فقد تبعتها ردة فعل نحو زيادة التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية وتسارعت نحو النزعة الجماعية بشكل كبير خلال الحربين العالميتين. وأصبحت دول الرفاهية بدلًا عن الحرية هي السمة المميزة للدول الديمقراطية.
وبإدراك الخطر الضمني على الفردانية خشي المفكرون المنحدرون من الفلاسفة الراديكاليين منهم دايسي، وميزس، وهايك، وسايمنز بأن التقدم مستمر نحو السيطرة المركزية على النشاط الاقتصادي سوف يثبت الطريق إلى العبودية. وكان تركيزهم بالضبط على الحرية الاقتصادية كوسيلة لتحقيق الحرية السياسية.
الحرية السياسية ظهرت وانتشرت مع نمو الرأسمالية
على المدى الطويل تقود الحرية الاقتصادية إلى الحرية السياسية وتحافظ عليها. لا شك في أن وجود السوق الحر هو الأكثر ملائمة لخلق الثروة والتقدم، فنظام الحرية الاقتصادية يتفوق على أي نظام للتخطيط والإدارة الحكومية لأن عملية السوق هي ترتيب تلقائي يتم فيه تخصيص الموارد بكفاءة وفقًا للاحتياجات الفردية التي يعبر عنها الأشخاص طواعيةً وبدون أي إكراه أو تصميمات متعمدة، فإن السوق الحرة الخاصة تجلب كفاءة اقتصادية ورفاهية اجتماعية أكبر.
تخلق آثار الحرية الاقتصادية الظروف الاجتماعية الضرورية للحرية السياسية. لأنه بشكل أساسي لا يمكن للنظام الاستبدادي الذي يقمع الحرية السياسية البقاء جنبًا إلى جنب مع السوق الحر على المدى الطويل. ولدينا العديد من الأمثلة التاريخية تظهر هذه الحقيقة فنفس الشيء حدث في (سنغافورة، وتشيلي، وكوريا الجنوبية…) فالسوق الحرة ليست فقط عملية للتخصيص الأمثل للموارد وخلق الثروة التي توفر الأسس المادية للحرية السياسية، ولكنها توفر أيضًا بيئة للتعلم وتنمية الشخصية التي تبني الأسس السلوكية للحرية السياسية.
هذه هي خاصية السوق التي نشير إليها عندما نقول بأن السوق الحر يوفر حرية سياسية، لكن لهذه الصفة أيضًا مضامين تذهب إلى أبعد بكثير من المفهوم الضيق للاقتصاد. إن الحرية السياسية تعني انعدام قهر الفرد من قبل أنداده. والخطر الرئيسي على الحرية هو امتلاك القوة على القهر، لا يهم كونها في يد الملك أو الديكتاتور أو حكم الأقلية أو أغلبية آنية فالنتيجة تكون نفسها.
تتطلب حماية الحرية التخلص من تمركز السلطة على أكبر قدر ممكن ونشر وتوزيع أي سلطة ليس بالإمكان إلغاؤها أي إيجاد نظام من نقاط الضبط والتوازن. و بتخليص نظام النشاط الاقتصادي من سيطرة السلطة السياسية يتخلص السوق من هذا المصدر للسلطة القهرية، ويمكن ذلك على أن تشكل القوة الاقتصادية مصدر ضبط على السلطة السياسية بدلًا من كونها تعزيزًا لها.
إن حصلت الحكومة المركزية على السلطة فمن الأرجح أن يكون ذلك على حساب الحكومات المحلية. يبدو أنه يوجد هناك شيء كمجموع ثابت للسلطة السياسية ليتم توزيعه، وبناءً على ذلك، إن ضُمَّت السلطة الاقتصادية إلى السلطة السياسية فإن التمركز يبدو حتميًا على الأغلب. ومن جهة أخرى، إن تم الإبقاء على السلطة الاقتصادية في أيدٍ غير تلك التي تمتلك السلطة السياسية، فإنها ستعمل كنقطة ضبط وفحص للسلطة السياسية.
كمثال أن الشيوعية ستدمر جميع حرياتنا، وقد يعارض المرء هذا المذهب قدر استطاعته، ومع ذلك، وفي الوقت ذاته يجب في مجتمع حر ألّا يحتمل منع فرد من عمل ترتيبات اختيارية مع آخرين يبادلونه المنفعة بسبب أنه يؤمن أو يحاول ترويج الشيوعية فحريته تشمل حريته في الدعوة إلى الشيوعية وتشمل الحرية كذلك حرية الآخرين في عدم التعامل معه تحت تلك الظروف.
لقد كانت قائمة هوليوود السوداء عملًا مناقضًا للحرية لأنها كانت تآمر يستخدم وسائل قسرية لمنع تبادل اختاري. ولم ينجح ذلك لأن السوق على وجه الخصوص جعل الأمر مكلفًا في أن يحمي الناس مثل تلك القائمة. حقيقة أن للأشخاص الذين يديرون المشاريع حافزًا في كسب أكبر قدر ممكن من المال قد قام بحماية حرية الأفراد الذين أُدرجوا على القائمة السوداء بمنحهم شكلًا بديلًا لتوظيفهم وكذلك بمنح الناس حافزًا لتوظيفهم.
الحرية الاقتصادية تؤدي إلى الحرية الفردية والاجتماعية
يظهر لنا التاريخ إلى أن الرأسمالية شرط ضروري للحرية السياسية.
ميلتون فريدمان
ذكر ميلتون فريدمان أن الحرية الاقتصادية هي وسيلة لا غنى عنها لتحقيق الحرية السياسية.
تشير الحرية الاقتصادية إلى نوعية السوق الحر الذي يقوم فيه الأفراد بتبادل طوعي لمصالحهم الخاصة. الحرية السياسية تعني التحرر من إكراه السلطة التعسفية التي تمارسها الحكومة. تتكون الحرية السياسية من عنصرين أساسيين: الحقوق السياسية والحريات المدنية.
تسمح الحقوق السياسية الكافية للناس باختيار حكامهم والطريقة التي يحكمون بها. إن جوهر الحريات المدنية هو أن الناس أحرار في اتخاذ قراراتهم الخاصة طالما أنهم لا ينتهكون نفس حقوق للآخرين. يشير فريدمان إلى حقيقة تاريخية مفادها أن الحرية الاقتصادية والحرية السياسية ترتبطان ارتباطًا وثيقًا. ومع ذلك، فإن العلاقات بين الحرية الاقتصادية والحريات المدنية والحقوق السياسية معقدة.
في السوق الحر، يتمتع الأفراد بحرية اختيار ما يجب أن يستهلكوه وينتجوه ويعطوه. تقود اليد الخفية الوكلاء الاقتصاديين الحرين لتحقيق مصالحهم الخاصة والتعاون طواعية مع الآخرين، بهذا نرى أن الحرية الاقتصادية والحريات المدنية مرتبطة بشكل واضح فمن غير المرجح أن يدعم المجتمع الذي لا تكتمل حرياته المدنية السوق الحر، لأن الحريات المدنية والحرية الاقتصادية تشترك في التحرر من عمليات الإكراه التي يقوم بها الأفراد أو الحكومات.
يتميز السوق الحر بالتعاملات الطوعية بين الأفراد الذين تُركوا لتحقيق غاياتهم الخاصة لتحقيق أهدافهم الاقتصادية. تكمن قيمة الحرية السياسية في الحرية الاقتصادية بالضبط في حقيقة أن الحريات المدنية محددة بأنها ضمانات للحد من السلطة الحكومية وحماية الاستقلال الذاتي للفرد. فحرية الإنسان المتأصلة في الحريات المدنية هي الوسيلة التي يتم من خلالها تحقيق الحرية الاقتصادية.
تاريخيًا ومنطقيًا نرى أنه من الواضح أن الحرية الاقتصادية هي شرط أساسي للحرية السياسية. العنصر الأساسي للحرية الاقتصادية هو الملكية الخاصة التي هي بدورها من أساسات دعم الحرية السياسية. فبدون الملكية الخاصة الآمنة والثروة المستقلة يفقد الفرد ممارسة حقوقه السياسية وحرياته المدنية.
يصر هايك على أن:
“السيطرة الاقتصادية ليست مجرد سيطرة على قطاع من الحياة البشرية يمكن فصله عن الباقي: إنها السيطرة على الوسائل لجميع غاياتنا”.
فالأشخاص الذين يعتمدون على الحكومة في عملهم ومصدر رزقهم لديهم قدرة ضئيلة على معارضة الحكومة وهم يمارسون حقوقهم السياسية. بدون حقوق امتلاك واستغلال ممتلكاتهم كما يريدون لا يستطيع الناس تشغيل وسائل الإعلام الحرة وممارسة دياناتهم وما إلى ذلك كما يريدون.
بغض النظر عن المواقف القائمة على الرضا فإن مهنيي التنمية غير فعالين إلى حد كبير في التخفيف من حدة الفقر، على سبيل المثال لا تؤدي البرامج التي تعطي الطعام للنساء الفقيرات إلى أي مكاسب اقتصادية طويلة الأجل.
وكما نعلم فإن الفقر يجعل النساء ضعيفات بشكل خاص. وبالفعل فإن مراجعة أدبيات التنمية المنشورة في مجلة الأدب الاقتصادي تشير إلى أن عدم المساواة بين الجنسين ينخفض مع انخفاض مستوى الفقر وبالتالي فإن حالة المرأة تتحسن أكثر من حالة الرجال. وبعبارة أخرى يرتبط التمكين الاجتماعي للمرأة ارتباطًا وثيقًا بالتمكين الاقتصادي وتستفيد المرأة أكثر من هذا التقدم والرخاء.
السماح للنساء بتحقيق قدر أكبر من النفوذ الاقتصادي يمكّنهن من الضغط من أجل التغيير الاجتماعي الذي يتدفق منه التغيير السياسي والقانوني. تتحسن المساواة بين الجنسين بموجب القانون كلما أصبحت الدول أكثر حرية من الناحية الاقتصادية.
تُظهر العديد من البيانات أنه فقط خلال العقدين الأخيرين انخفض الفقر المدقع إلى النصف مع إحراز تقدم مشجع بشكل خاص في آسيا. تزامن هذا النمو الاقتصادي مع سياسات التحرر الاقتصادي. الناس في البلدان الفقيرة ليسوا ضحايا سلبيين ينتظرون الإنقاذ، فهم يمتلكون القوة لإخراج أنفسهم من الفقر أينما كانوا يتمتعون بحرية القيام بذلك.
هذا ينطبق بشكل خاص على النساء، فلننظر إلى بنغلاديش التي شهدت انخفاضًا حادًا في والتغيير الإيجابي في حياة المرأة، وكما لاحظت نائلة كبير الخبيرة الاقتصادية الاجتماعية في كلية لندن للاقتصاد بحيث تقول:
“لقد استغرق الأمر قوى السوق وصناعة ملابس موجهة نحو التصدير لتحقيق ما فشل فيه عقد من الجهود الحكومية وغير الحكومية من أجل إنشاء نساء عاملات”.
وقد أدى التصنيع إلى زيادة التحصيل العلمي للمرأة وانخفاض معدلات زواج الأطفال، ووفقًا لكبير فقد أدى ذلك أيضًا إلى تخفيف المعيار الاجتماعي المتمثل في الخمار والبرقع وتحسنت استجابات نظام المحاكم للنساء. “كانت الملابس جيدة جدًا للنساء” قال أحد عمال المصنع لكبير. مكّنتها أرباحها من الهروب من زوجها الذي يسيء معاملتها جسديًا. واستطردت قائلة: “أشعر الآن أن لديّ حقوقًا، يمكنني البقاء على قيد الحياة”. إن الهروب من الفقر وتحقيق الحقوق المتساوية في كثير من الأحيان يسيران جنبًا إلى جنب.
الحريات السياسية حيوية، لكن يجب ألا نتجاهل أهمية الحرية الاقتصادية. إن النساء اللواتي يعانين في البلدان النامية قادرات تمامًا على إنقاذ أنفسهن إذا أعطيت لهن هذه الحرية فقط.
السياسيين المنتخبين وكبح الحرية الاقتصادية
تميل الديمقراطية بمجرد تأسيسها إلى الحد من الحرية الاقتصادية إلى حد ما. ومن المؤكد أن النظام الاستبدادي أقل احتمالًا بشكل إيجابي لتعزيز الحرية الاقتصادية. لنفترض أن بلدًا ما يطور نظامًا سياسيًا بهيكل بيروقراطي منظم بشكل هرمي يعطي امتيازات لطبقة صفوة. في مثل هذا البلد يجب تقييد الحرية السياسية لخدمة الأقلية النخبوية. حتى لو كان السوق موجودًا فيجب ألا يكون سوقً حر خاص حقيقي، فالأفراد هم مجرد وكلاء للدولة ولا يمكن أن يكونوا منافسين حقًا. علاوةً على ذلك، تميل السلطات السياسية في نظام استبدادي إلى تشويه السوق عن طريق تخصيص الموارد عن طريق الإكراه. تسيطر فئة النخبة على جزء كبير من الموارد وتسيطر بفعالية على مجموعة كاملة من القرارات الاقتصادية. تتطور الحرية الاقتصادية عن طريق الصدفة ولا تتطور أبدًا عن طريق التصميم.
فريدريك هايك
لطالما رأى علماء الاختيار العام أنه لدى السياسيين المنتخبين بشكل تنافسي وعملائهم في البيروقراطية اهتمام ذاتي بنفسهم وقد يتدخلون ويقاطعون السوق الحرة لإرضاء دوائرهم ورعاتهم.
يستخدم الأفراد الذين يتمتعون بالحقوق السياسية شكلًا من الديمقراطية لإعادة توزيع الثروة من أموال الآخرين باسم العدالة الاجتماعية في كثير من الأحيان عن طريق التدخل الحكومي في السوق الحرة ومن خلال تقييد المنافسة أو الحد من المبيعات من خلال التلاعب في الأسعار.
فقد تسبب سوء استخدام الحرية السياسية في الديمقراطيات إلى توسيع نطاق الخدمات والأنشطة من قبل الحكومات إلى أبعد من النطاق المناسب الذي يتم فيه حماية وحفظ الحريات الاقتصادية والبشرية.
مراجع ومصادر:
- Mises.org
- What When How
- Capitalism and Freedom – Milton Friedman
- Human Action – Ludwig von Mises
- Economic and political freedom – Milton Friedman
- The Law – Bastia.