الفلسفة: ماذا تعني، ولماذا يجب أن تهمك؟ - ريتشارد كارير

تعني الفلسفة «حب الحكمة». والفيلسوف الحق هو كل شخص يدفعه شغفه للسعي وراء الحكمة والحقيقة. كثير من غير الخبراء قد يكونون فلاسفة بحق. ولكن بعد خمسة وعشرين قرناً من المحاولة والخطأ، والتساؤل والجدل، فنحن اليوم نعرف أن هناك سلسلة معينة يجب على هذا السعي أن يتبعها.

الفلسفة: ماذا تعني، ولماذا يجب أن تهمك؟ - ريتشارد كارير
العقل والطيبة في عالم طبيعي
تأليف: ريتشارد كارير
ترجمة: حيدر راشد

تعني الفلسفة «حب الحكمة». والفيلسوف الحق هو كل شخص يدفعه شغفه للسعي وراء الحكمة والحقيقة. كثير من غير الخبراء قد يكونون فلاسفة بحق. ولكن بعد خمسة وعشرين قرناً من المحاولة والخطأ، والتساؤل والجدل، فنحن اليوم نعرف أن هناك سلسلة معينة يجب على هذا السعي أن يتبعها. فعلينا دوما أن نبدأ تأملنا الذاتي بالنظر في «نظرية المعرفة» أو بمصطلح الفلاسفة «الإبستمولوجيا» خاصتنا. لماذا؟ لأن أي شيء تهدف للتحقق منه أو توکیده، يتطلب أولا أن تكون لديك بعض الضوابط للتمييز بين الصواب والخطأ - أو بمعنى أساس جدا: ما يمكن عقلانياً توكيده والاعتقاد به، وما لا يمكن.
بعبارة أخرى: لو كنت لتؤكد أي شيء («زوجتي بنية الشعر» أو «الحقيقة خير») فهل أنت عقلاني؟ هل لديك أسباب كافية للثقة بأنك على صواب في ذلك؟

إن بناء إبستمولوجيا تستطيع الإجابة على هذه الأسئلة بشكل عقلاني متفكر - حول الاعتقاد بشيء ما أو توكيده إن كان أهلاً للثقة - يتطلب على الأقل ثلاث خطوات. فأولا: يجب أن تكون لديك فكرة سليمة وواضحة عما تسعى للتحقق منه أو توکیده («فما هي الزوجة» أو «بنية الشعر»؟ «ما هي الحقيقة»؟ «ما الذي يعنيه الخير»؟») ثانيا: يجب أن تكون لديك فكرة واضحة وسليمة عن الكيفية التي تقوم من خلالها باكتشاف إن كان بالإمكان تأكيده أو لا («كيف أثبت أن زوجتي بنية الشعر، أو أن الحقيقة خیر؟») وثالثا: عليك أن تتمعن فعلاً في هذا الإجراء، ولو قليلاً، قبل أن تؤكد أي شيء في الممارسة، كلنا نتعلم القليل عن هذه الخطوات الثلاث ونطبق إجراء كهذا بشكل حدسي، معتمدين على إبستمولوجيا لم نقم بتفحصها أو بنائها، بل استعرناها ببساطة من آبائنا ومعلمينا وأقراننا، أو تلقفناها تلقائياً من خبرتنا الحياتية أو تدريبنا الاحترافي، دون اكتراث أحياناً، وأحياناً أخرى بانتباه.

ولكن حصيلة هذه العملية لن تكون معرفة سليمة تستحق الثقة حول أنفسنا والكون (ومن ثم، في النهاية، حول السلوك السليم) ما لم تكن إجراءاتنا - في كل المراحل الثلاث - سليمة وأهلاً للثقة. ولكنك لو لم تفكر يوماً في ذلك، فضلاً عن تفحصك واختبارك الدقيق لما تعرفه حول كيف تعرف الأشياء، فكم من المحتمل إذن أن يكون ما تستخدمه، وما تفترضه دون تفحص، سليماً وأهلاً للثقة «بالصدفة»؟ كل شيء تفعله، كل شيء تعتقده، كل شيء تهدف إليه، يعتمد كلياً على مدى صحة معرفتك. من الأفضل بكل تأكيد أن تتأكد من أن مناهجك هي أفضل ما بالإمكان، وأنها متناسقة وفعالة دوماً. ولهذا تعد الفلسفة أهم شؤونك.

وهكذا، فنحن بحاجة إلى «نظرية للمعرفة». ولكن كيف نعرف أن نظريتنا صحيحة؟ كيف نعرف أن نتائجها ستقودنا فعلا إلى واقع الحال، وتقربنا أكثر فأكثر كلما طبقناها أكثر؟ المحك الحقيقي هو نتائجها العملية. ولكن قبل ذلك يفترض بنا البدء من بعض المبادئ الأولى المعقولة بحد ذاتها. وهكذا فقط يمكننا التوصل إلى وضع هذه المبادئ على المحك، لأجل تصفيتها عبر دراسة نتائجها. إن كيفية توصلنا إلى هذه المبادئ الأولى ليست مهمة (فالحال أننا، مع مرور الزمن، قد نبدأ من جديد مع مبادئ أخرى)، ما دامت معقولة لدينا أولاً، وتبرئها نتائجها العملية ثانياً. وهذا سر يعمله القليلون عن التفكير کعبقري: لا يهم من این تأتي بأفكارك، أو كم منها يثبت أنها خاطئة، ما دمت تثق فقط بالأفكار التي تثبت بشكل سليم.

يفترض بالطبع أن يتضح أنه لو لم تكن لديك فكرة سليمة أو واضحة عما يقوله الآخرون، فلن تكون قادراً على معرفة إن كان ذلك صحيحاً، لأنك لا تعرف أصلاً ماذا يقال. وهكذا، فكل اعتقاد يقوم لديك على فكرة غامضة غير متفحصة سيكون مشوشاً من البداية. ولهذا فمن المهم جداً أن تفهم أفكارك ومعتقداتك أولاً. وهذا أمر لا يتوصل لضبطه إلا عبر دراسة جادة لكل من اللغة والمنطق، مع أن أي تعليم جيد في التحدث و التفكير سيخدمك أفضل بكثير من لا شيء. ذلك أنك ما لم تكن واضحاً في هذه الشؤون، فلن يكون تفكيرك واضحاً، وستكون أقل قدرة على تحديد ما تعنيه فعلاً حين تقول هذا الشيء أو ذاك. وبالتالي، فأي شخص يتجاهل ببساطة دراسة النحو والمنطق، لن يصل إلا لتقدم بطيء وخطّاء في فهم أي شيء، وسيقع حتماً و دون علم منه في ارتكاب مغالطات كثيرة، دون أن يمتلك مهارة حسن التملص منها. ومع أن العديد منا قد يساعدهم الحظ ويبلون حسنا وفق موهبتهم الطبيعية - إن كنا أذكياء وجيدي التعليم - فهذا لن يعادل شيئاً أمام مهارة حسنة الصقل والتمرين.

كما يفترض أن يتضح أنه ما لم تكن لديك فكرة سليمة أو واضحة حول کیف تمضي في تمحيص الصواب من الخطأ، فستظل تتعثر دون هدى في كل بحث، وينتهي بك الأمر واقعاً في العديد من المعتقدات الخاطئة. فمن دون تصور واضح عن المنهج، لن يمكنك استكمال أي تحقيق بشكل جيد أو عميق، وكثيراً ما تكون نتائجك غير متناسقة أو مضللة. ولكونها أسيء اختبارها وضعف التفكير فيها، فحتى مناهجك ستضم حتماً أخطاء عديدة. وهكذا فإن أي شخص يتجاهل دراسة المنهج قلما يلاقي نجاحاً في التخلص من المعتقدات الفاسدة والتوصل إلى معتقدات صحيحة بحق. لن يكون لشخص كهذا أي سبب مقنع للثقة في معتقداته. فكر في السبب الذي يجعل العلماء و محققي الجرائم الخبراء، أو أي أستاذ ماهر في حرفته، يجيدون حرفتهم بهذا الشكل، وبكل سهولة واتساق، حتى حين يلاقون تحديات غير مسبوقة. فكر في كيف أننا لا نثق بأي شخص آخر لأداء وظائفهم. فلماذا لا نمتلك مهارة كهذه في الحياة والفكر نفسه؟ فالمنفعة في ذلك واضحة.

ًوكذلك يجب أن يتضح بنفس القدر أنك ما لم تطبق منهجا سليماً بشكل رصين ودائم، فسيظل نظامك الاعتقادي متزعزعا و منقوصاً. ذلك أنك لن تنجح في أي شيء ذي بال إن كان لديك فهم ضعيف أو حتى غير صحیح لنفسك، ولما يوجد بالفعل، ولما يجب أن تفعله حيال ذلك. لن يجدي نفعا أن تمتلك الفهم والمهارة ثم لا تستخدمها إلا لماماً. فعليك أن تستخدمها في كل حين، وبالتأكيد في كل أمر مهم تفعله في حياتك، بحيث يمكن التأكد من أن الحقائق والمعتقدات التي تعتمد عليها دوما، دقيقة ويعتمد عليها بقدر ما يمكنك. فالفلسفة لا تدور حول الفكر وحده، بل ينبغي أن تعاش.

ولهذا فمن الحماقة أن نتجاهل الفلسفة. لأن هذا «السعي وراء الحكمة» هو نفس فعالية دراسة اللغة، المنطق، والمنهج، واستخدام هذه الأدوات لبناء رؤية مستوعبة ومفهومة ومفيدة في النهاية - عن نفسك وعن العالم. إن كنت تحب الحكمة، فهذا هو مسارك. وأنت في حاجة لهذه الحكمة المؤسّسة لأجل إشباع كل رغباتك باتساق، ونجاح، وفي الترتيب الصحيح. وبهذا تصل لحالة سعيدة من السكينة الرضية، حيث لا مكان لعناء الألم، الخيبة، والحاجة إلى التضاؤل أو التلاشي.

بفضل خبرتي الطويلة، يمكنني أن أشهد بحقيقة أن دراسة الفلسفة قد حسنت دوما من قدرتي على التعرف على أخطائي وتصحيحها، والتعرف (ثم التجاوز) لأخطاء الآخرين. لقد حسنت بالتالي من قدرتي على التفكير بشكل جيد وواضح، وجعلت من تعلمي المستمر في كل الشؤون أيسر وأوفر ثماراً. كما قادتني الفلسفة إلى فهم لنفسي وللعالم جعل سعادتي العامة أسهل وأدوم وأعمق، جاعلاً كل ضرب من البؤس اسهل تجنباً أو تحملاً. وفوق كل ذلك، فلدي حس واضح حول تحسین نفسي ورؤيتي للعالم بشكل دائم، وهي علامة على أني أقترب من الحقيقة فعلاً، أقرب فأقرب مع كل خطوة لهذا، فالفلسفة ليست ترفاً لاهياً، بل عمل جاد له دور رئيس في حياتنا. ويجب أن تكون ديننا الأول إن لم يكن الوحيد: دين يستبدل فيه التعبد بالفضول، والتبتل بالاستقامة والجد، والقداسة بالنزاهة، والطقوس بالدراسة، والنص المقدس بكل العالم وكل المعرفة البشرية.
يعد الفيلسوف في مكانة مساوية للواجب الديني أن يسائل كل الأشياء، ويؤسس إيمانه على كل ما أجيد تحقيقه وإثباته، لا كل ما أجيد توكيده.