طبيعة الطبيعة - جوردن بيترسن

من الحقائق البديهية في علم الأحياء أن التطور متحفظ؛ فعندما يتطور شيء ما، فلا بد أن يعتمد على ما أنتجته الطبيعة بالفعل. قد تضاف سمات جديدة، وقد تتعرض سمات قديمة لبعض التعديلات، ولكن تبقى معظم الأشياء على حالها.

طبيعة الطبيعة - جوردن بيترسن
12 قاعدة للحياة - ترياق للفوضى
تأليف: جوردن بيترسن
ترجمة: محمد إبراهيم الجندي

من الحقائق البديهية في علم الأحياء أن التطور متحفظ؛ فعندما يتطور شيء ما، فلا بد أن يعتمد على ما أنتجته الطبيعة بالفعل. قد تضاف سمات جديدة، وقد تتعرض سمات قديمة لبعض التعديلات، ولكن تبقى معظم الأشياء على حالها. ولهذا السبب تبدو أجنحة الخفافيش، وأيدي البشر، وزعانف الحيتان، متشابهة على نحو مذهل في شكل الهيكل العظمي، بل إنها تتكون من نفس العدد من العظام. لقد أرسى التطور حجر الأساس للفسيولوجيا الأساسية منذ زمن طويل.

يعمل التطور في معظمه من خلال التنوع والانتقاء الطبيعي. يحدث التنوع لعدة أسباب، من بينها خلط الجينات (للتبسيط) والطفرات العشوائية، ويختلف الأفراد داخل النوع الواحد لهذه الأسباب. وتختار الطبيعة من بينهم مع مرور الزمن. ويبدو أن هذه النظرية، بالطريقة التي ذكرناها بها، مسؤولة عن التغيير المستمر لأشكال الحياة على مر العصور. ولكن ثمة سؤالا إضافيا يكمن تحت السطح هنا، وهو: ماذا تعني «الطبيعة» بالضبط في مصطلح «الانتقاء الطبيعي؟ ماذا تعني «البيئة» التي تتكيف الحيوانات معها بالضبط؟ إننا نفترض العديد من الافتراضات بشأن الطبيعة - أو البيئة - وهذه الافتراضات لها نتائج. وقد قال مارك توين ذات مرة: «ليس ما لا تعرفه هو ما يوقعنا في المتاعب؛ وإنما ما نعرفه بالتأكيد».

أولا، من السهل افتراض أن «الطبيعة» هي شيء له طبيعة معينة؛ أي شيء ثابت. ولكنها ليست كذلك، على الأقل ليس بالفهم البسيط للعبارة. إنها ثابتة وديناميكية في الوقت ذاته. فالبيئة -أو الطبيعة التي تقوم بعملية الانتقاء - هي ذاتها تتغير. ويمثل رمزا الين واليانج الشهيرين لدى الطاويين هذا الأمر على نحو رائع. فبالنسبة للطاويين، «الكينونة» - أي الواقع نفسه - يتكون من مبدأين متعارضين، غالبا ما يعبر عنهما كمؤنث و مذکر، أو على نحو أكثر تحديدا، كأنثى وذكر. إلا أن الين واليانج فهمان على نحو أكثر دقة على أنهما الفوضى والنظام. يتكون رمز الطاوية من دائرة تضم ثعبانين متقابلين. وللثعبان الأسود - الذي يرمز للفوضى- نقطة بيضاء في رأسه، وللثعبان الأبيض الذي يرمز للنظام - نقطة سوداء في رأسه. وذلك لأن الفوضى والنظام متقاطعان ومتبادلان، وكذلك متجاوران إلى الأبد. فلا يوجد شيء ثابت لدرجة تمنع تغيره؛ فحتى الشمس نفسها تمر بدورات من عدم الاستقرار. وبالمثل، لا يوجد شيء متغير لدرجة تمنع ثباته؛ فكل ثورة تنتج نظاما جديدا، وكل موت هو في الوقت نفسه تحول.

النظر إلى الطبيعة على أنها ثابتة تماما يسبب أخطاء جسيمة في الفهم. الطبيعة (تنتقي). وتشتمل فكرة الانتقاء ضمنيا على فكرة اللياقة . إنها «اللياقة» هي التي يجري «انتقاؤها». واللياقة - بمعنی تقریبي- هي احتمال أن يترك كائن حي معين ذريته (أي ينشر جيناته عبر الزمن). وتعني اللياقة مطابقة سمات الكائن الحي للمتطلبات البيئية. وإذا تصورنا أن هذه المتطلبات ثابتة - وذلك إذا تصورنا أن الطبيعة سرمدية وثابتة - يكون التطور عبارة عن سلسلة لا تنتهي من التحسينات الخطية، وأن اللياقة شيء يمكن فهمه بدقة متزايدة مع مرور الزمن، إن الفكرة الفيكتورية للتطور التي لا تزال حاضرة بقوة - حيث الإنسان في قمة الهرم - تمثل نتيجة جزئية لهذا النموذج للطبيعة، وتنتج عنها الفكرة الخاطئة بأن ثمة غاية للانتقاء الطبيعي (الجدارة المتزايدة للتكيف مع البيئة)، وأنه يمكن تصورها كنقطة ثابتة.

غير أن الطبيعة - فاعل الانتقاء - ليست ثابتة، ولا حتى بأبسط المعانی. فالطبيعة تتخذ مظهرا مختلفا في كل مناسبة. تختلف الطبيعة مثل مقطوعة موسيقية، وهذا يفسر جزئيا السبب في أن الموسيقى تقدم أعمق معانيها الضمنية. فمع تغير البيئة التي تدعم بقاء نوع من الأنواع وتحولها، فإن السمات التي تجعل فردا ما ناجحا في البقاء على قيد الحياة والتكاثر تتغير وتتحول بدورها. وهكذا، فإن نظرية الانتقاء الطبيعي لا تفترض وجود کائنات تتكيف ذاتيا بدقة متزايدة مع قالب يحدده العالم؛ بل الأمر أشبه بكون الكائنات في رقصة مع الطبيعة، وإن كانت رقصة مميتة. وكما تقول الملكة الحمراء لأليس في بلاد العجائب: «في مملكتي، عليك أن تركضي بأسرع ما يمكنك لمجرد البقاء ثابتة في مكانك». وما من شخص يقف ثابتا يمكنه تحقيق الانتصار، مهما كان تكوينه جيدا.

والطبيعة ليست ديناميكية تماما أيضا. فبعض الأشياء تتغير بسرعة، ولكنها تكون جزءا من أشياء أخرى تتغير بسرعة أقل (وتحاكي الموسيقى هذا في كثير من الأحيان أيضا). فأوراق الأشجار تتغير بسرعة أكبر من الأشجار، والأشجار تتغير بسرعة أكبر من الغابات. والطقس يتغير بسرعة أكبر من تغير المناخ. ولو لم يكن الأمر كذلك، فلن تعمل الآلية المحافظة على التطور، حيث كان الشكل الأساسي لليدين والذراعين سيحتاج للتغير بنفس سرعة تغير طول عظام الذراع ووظائف الأصابع. إنها فوضى بداخل نظام، بداخل فوضى، بداخل نظام أكبر. والنظام الأكثر واقعية هو النظام الأكثر ثباتا؛ وهذا ليس بالضرورة النظام الأكثر وضوحا. فعند مراقبة ورقة شجر، قد يغفل المراقب عن الشجرة. ويمكن للشجرة أن تلهيه عن رؤية الغابة. وبعض الأشياء شديدة الواقعية (مثل التسلسل الهرمي الدائم للهيمنة) لا يمكن «رؤيتها» على الإطلاق.

كما أنه من الخطأ تصور الطبيعة على نحو رومانسي، فسكان المدن الأغنياء المعاصرون، المحاطون بالخرسانة الدافئة، يتصورون البيئة على أنها شيء نقي ينتمي إلى الجنة، مثل المناظر الطبيعية التي يرسمها فنان انطباعي فرنسي. أما النشطاء في مجال الحفاظ على البيئة - وهم أكثر مثالية في نظرتهم- فيتصورون الطبيعة على أنها متوازنة ومتكاملة بشكل متناغم، وذلك في ظل غياب الاضطرابات وعمليات السلب والنهب التي يتسبب فيها البشر. إلا أن «البيئة» تمثل أيضا، مع الأسف، داء الفيل، والديدان الغينية (وما أدراك ما الديدان الغينية)، والطفيليات، والبعوض، والملاريا، والجفاف الذي يسبب المجاعات، والإيدز، و«الطاعون الأسود». إننا لا نتأمل في جمال هذه الجوانب من جوانب الطبيعة، على الرغم من أنها حقيقية مثل نظرياتها وهي من السمات الرائعة المنتمية إلى الجنة. وبسبب وجود مثل هذه الأشياء بالطبع، فإننا نحاول تغییر محيطنا، وحماية أطفالنا، ببناء المدن وأنظمة النقل وزراعة الغذاء وتوليد الطاقة. ولو لم تكن الطبيعة الأم عازمة كل هذا العزم على تدميرنا، لكان من الأسهل علينا التعايش بانسجام تام مع شروطها وإملاءاتها.

يقودنا هذا إلى مفهوم خاطئ ثالث، وهو أن الطبيعة شيء معزول تماما عن البني الثقافية التي نشأت بداخلها. النظام بداخل الفوضى، ونظام «الكينونة»، يصبح «طبيعيا»، أكثر كلما استمر لفترة أطول. وذلك لأن «الطبيعة» هي التي تنتقي»، وكلما طال وجود سمة ما، طال الوقت الذي جری انتقاؤها فيه؛ والذي تواجدت فيه لتشكيل الحياة. ولا يهم إذا« كانت هذه السمة فيزيائية وبيولوجية، أم اجتماعية وثقافية. بل المهم - من منظور دارويني- هو الديمومة، وقد كان التسلسل الهرمي للهيمنة - برغم أنه قد يبدو اجتماعا أو ثقافيا- موجودا منذ نحو نصف مليار سنة. إنه دائم، وواقعي. إن التسلسل الهرمي للهيمنة ليس مثل الرأسمالية، ولا الشيوعية؛ - وهو ليس المجمع الصناعي العسكري، وليس النظام الأبوي؛ ذلك النظام الثقافي التعسفي الذي يمكن التخلص منه. بل إنه ليس حتى من صنع البشر؛ بمعناه الأعمق. إنه بالأحرى جانب شبه أبدي من البيئة، وكثير مما يتم إلقاء اللوم فيه على هذه التجليات سريعة الزوال هو في الحقيقة نتيجة للوجود الثابت الدائم لذلك النظام. فنحن («نحن» المهيمنين، نحن الكائنات الحية التي تواجدت منذ نشأة الحياة) عشنا في تسلسل هرمی للهيمنة لفترة طويلة للغاية من الزمن. لقد كنا نتصارع على المكانة قبل أن يكون لدينا جلد، أو أيدٍ، أو رئة، أو عظام. إن التسلسل الهرمي للهيمنة أقدم من الأشجار ذاتها.

وهكذا فإن ذلك الجزء من أدمغتنا المسؤول عن تتبع موقعنا في التسلسل الهرمي للهيمنة قديم وأساسي على نحو استثنائي . إنه نظام تحكم رئيسي يعمل على تعديل تصوراتنا، وقيمنا، وعواطفنا، وأفكارنا، وأفعالنا، ويؤثر بقوة على كل جانب من جوانب کینونتنا، الواعية واللاواعية على حد سواء. ولهذا السبب، عندما ننهزم، نتصرف على نحو مشابه كثيرا للكركند الذي خسر القتال. تنكمش أجسادنا، ونخفض رؤوسنا، ونشعر بالتهديد، والأذى، والقلق، والضعف. وإذا لم تتحسن الأمور، نصاب بالاكتئاب المزمن، وفي ظل هذه الظروف، لا يمكننا خوض ذلك النوع من القتال الذي تتطلبه الحياة بسهولة، ونصبح أهدافا سهلة للمتنمرين الأقوى، وهذا ليس وحده وجه التشابه في السلوكات والخبرات الذي يثير الانتباه؛ فكثير من تفاصيل الكيمياء العصبية الأساسية متشابهة.

لنتأمل السيروتونين، وهو المادة الكيميائية التي تتحكم في وضعية الجسد والهروب لدى الكركند. حیوانات الكركند الأدنى مكانة تنتج أجسادها مستويات منخفضة نسبيا من السيروتونين. وينطبق هذا أيضا على البشر ذوي المكانة المنخفضة (وتقل هذه المستويات المنخفضة أكثر وأكثر مع كل هزيمة جديدة). ويؤدي انخفاض السيروتونين إلى انخفاض الثقة، كما يؤدي إلى زيادة الاستجابة للتوتر وزيادة الاستعداد البدني للحالات الطارئة، وهو أمر منهك جسديا؛ وذلك لأن أي شيء يمكن أن يحدث في أسفل التسلسل الهرمي للهيمنة، وفي أي وقت (ونادرا ما يكون ذلك شيئا جدا). ويعني انخفاض السيروتونين قلة السعادة، والمزيد من الألم والقلق، والمزيد من المرض، وقصر العمر، وذلك لدى البشر والقشريات على حد سواء. وتتميز المناطق الأعلى في التسلسل الهرمي للهيمنة، ومستويات السيروتونين الأعلى النموذجية لدى أولئك الذين يحظون بها، بقلة الأمراض والحزن والموت، حتی عندما تظل عوامل مثل الدخل الأساسي ثابتة. ولا يمكن التأكيد بما يكفي على أهمية ذلك.