درس الحرب - ول ديورانت
من بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والأربعمائة سنة الأخيرة من التاريخ المسجل لا توجد سوى 268 سنة بغير حرب.
مقال لـ: ول ديورانت
ترجمة: علي شلش
الحرب أحد ثوابت التاريخ، لم تتناقص مع الحضارة والديموقراطية. فمن بين السنوات الحادية والعشرين بعد الثلاثة آلاف والأربعمائة سنة الأخيرة من التاريخ المسجل لا توجد سوى 268 سنة بغير حرب. ومن المسلّم به أن الحرب في الوقت الراهن هي الشكل النهائي للمنافسة والانتخاب الطبيعي في الجنس البشري. وقد قال هرقليطس إن "الحرب هي أبو كل شیء" Polemos pater panton . فالحرب، أو المنافسة، أبو كل شیء، وهي الأصل الفعال للأفكار، والمخترعات، والمؤسسات ، والدول. أما السلام فهو توازن غير مستقر، لا يمكن المحافظة عليه إلا بالتفوق المقبول أو القوة المعادلة.
وأسباب الحرب هي ذاتها أسباب المنافسة بين الأفراد: نزعة التملك، والمشاكسة، والغرور. وهذه الأسباب هي الرغبة في الطعام والأرض والمواد الخام والوقود والسيادة. والدولة عندها ما عندنا من الغرائز، ولكن ليس عندها الكوابح التي عندنا. فالفرد يذعن للكوابح التي تفرضها عليه الأخلاق والقوانين، ويقبل استبدال الخلاف بالحوار، لأن الدولة تضمن له الحماية الأساسية في حياته وممتلكاته وحقوقه الشرعية. والدولة ذاتها لا تسلم بأية كوابح جوهرية ، إما
لأنها من القوة بحيث تتحدى أي تدخل في إرادتها أو لعدم وجود دولة عليا توفر لها الحماية الأساسية، وعدم وجود قانون دولي أو دستور أخلاقي يتمتع بسلطة تنفيذية ناجحة.
من ناحية الفرد نجد أن الغرور يكسبه قوة إضافية في منافسات الحياة. ومن ناحية الدولة نجد أن النزعة الوطنية تكسبها قوة إضافية في الدبلوماسية والحرب. فعندما حررت دول أوربا نفسها من سلطان البابوية وحمايتها شجعت كل دولة النزعة الوطنية، وعدتها ملحقة لجيشها وأسطولها. وكانت إذا توقعت نزاعا مع بلد معين راحت تثير في شعبها الكراهية لذلك البلد، وتصوغ الشعارات کی تصل بهذه الكراهية إلى نقطة مميتة، في الوقت الذي تؤكد فيه على حبها للسلام.
ولم تحدث عملية تجنيد البشر في خدمة وسواس الخوف من الدول الأخرى إلا في أشد النزاعات جوهرية . ونادرا ما التجأت إليها أوروبا في الفترة الواقعة بين الحروب الدينية في القرن 16 وحروب الثورة الفرنسية. وفي تلك الفترة أتيح لشعوب الدول المتنازعة أن يحترم كل منها منجزات الآخر وحضارته، فقد ساح الإنجليز بأمان في فرنسا وقت أن كانت الأخيرة في حرب مع انجلترا. وأستمر الفرنسيون وفردريك الأكبر في تبادل الإعجاب في الوقت الذي تقاتلوا فيه في حرب السنوات السبع. وفي القرنين 17، 18 كانت الحرب مباراة بين النظم الأرستوقراطية لا بين الشعوب. ولكن التقدم الذي أحرزته الاتصالات والنقل والأسلحة ووسائل التلقين في القرن 20 جعل الحرب صراعا بين الشعوب، يشغل المدنيين والمقاتلين سواء بسواء، ويحقق النصر من خلال التدمير الشامل للممتلكات والحياة. فحرب وأحدة تستطيع اليوم أن تدمر جهد قرون في بناء المدن، وإبداع الفن، وتطوير عادات الحضارة. والحرب اليوم - إذا شئنا عزاء تبريريا - تنشر العلم والتكنولوجيا اللذين قد تؤدي مخترعاتهما المميتة، فيما بعد، إلى زيادة منجزات السلام المادية، إذا لم تذهب هذه المخترعات طي النسيان داخل حالة الفقر المدقع والبربرية العامة.
لقد سخر الجنرالات والحكام في كل قرن (مع استثناءات نادرة مثل أشوکا وأغسطس) من الكراهية الرعديدة التي يبديها الفلاسفة نحو الحرب. فالحرب في التفسير العسكري للتاريخ هي الحكم الأخير، يتقبلها الجميع كشيء طبعی وضروری، باستثناء الجبناء والسذج. فما الذي صان فرنسا وإسبانيا عن أن تصبحا مسلمتين غير انتصار شارل مارتل في موقعة تور (عام 732) ؟ وماذا كان سيحدث لتراثنا القديم لو لم يحمة السلاح ضد غزوات المنغول والتتار؟ إننا نسخر من القواد الذين يموتون في فراشهم (وننسى أنهم أثمن كأحياء من كونهم أمواتا) ولكننا نقيم لهم التماثيل عندما يتحولون إلى هتلر آخر أو جنكيز خان آخر. ومما يرثى له (كما يقول الجنرال أن يموت الكثير من الشباب في ساحة القتال، ولكن الذين يموتون منهم في حوادث السيارات أكثر من يموتون في الحرب. وكثيرون منهم يشاغبون ويفسدون بسبب نقص النظام والانضباط. فهم يريدون متنفسا لنزعة القتال عندهم، وروح المغامرة، وسأمهم من الروتين الممل. وإذا كان لا بد أن يموتوا آجلا أو عاجلا فلماذا لا ندعهم يموتون من أجل وطنهم في خدار المعارك وشذا المجد؟ بل إن الفيلسوف، إذا كان على دراية بالتاريخ، سوف يسلم بأن السلام الطويل الأمد قد يضعف - بصورة قاتلة - العضلات العسكرية للأمة. وفي حالة العجز الحالي في القانون والعواطف الدولية يجب على الأمة أن تكون مستعدة في أية لحظة للدفاع عن نفسها. وإذا دخلت مصالحها الأساسية في الموضوع فلا بد من السماح لها باستخدام أية وسيلة تراها ضرورية لبقائها، فالوصايا العشر يجب أن تصمت إذا صارت المحافظة على النفس في خطر.
ومن الواضح (هكذا يستطرد الجنرال) أن الولايات المتحدة يجب أن تتخذ اليوم المهمة التي اضطلعت بها بريطانيا العظمی ببراعة كبيرة في القرن 19 - أي حماية الحضارة الغربية من الخطر الخارجي.
أعلنت الحكومات الشيوعية، المسلحة بمعدلات المواليد القديمة والأسلحة الجديدة، عن تصميمها مرارا وتكرارا على تدمير اقتصاد الدول غير الشيوعية واستقلالها. وتأثرت الأمم الجديدة، المتطلعة إلى ثورة صناعية توفر لها الثروة الاقتصادية والقوة العسكرية، بعملية التصنيع السريعة في روسيا تحت الإدارة الحكومية. وربما تكون الرأسمالية الغربية أكثر إنتاجية في النهاية، ولكنها أبطأ في النمو والتطور. ويبدو أن الحكام الجدد، المشغوفين بالسيطرة على موارد دولهم وقوتها البشرية، فريسة جذابة للدعاية الشيوعية، والتسلل والتخريب الشيوعيين. وما لم يوضع حد لهذه العملية المتفشية فستكون المسألة مسألة وقت بالنسبة لسقوط آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية كلها تقريبا في قبضة الزعامة. الشيوعية، وإحاطة استراليا ونيوزيلندا وأمريكا الشمالية وأوروبا الغربية بالأعداء من كل جانب. ولك أن تتخيل تأثير هذه الحالة على اليابان والفيليبين والهند، وكذلك على الحزب الشيوعي القوى في إيطاليا. وتخيل التأثير الذي يمكن أن يحدثه انتصار الشيوعيين في إيطاليا على الحركة الشيوعية في فرنسا. عند ذاك ستقع بريطانيا العظمى والدول الاسكندينافية وهولندا وألمانيا الغربية تحت رحمة قارة تسودها الشيوعية. فهل تقبل أمريكا الشمالية - وهي اليوم في أوج قوتها - حتمية مثل هذا المستقبل، فتنسحب إلى داخل حدودها، وترضخ لإحاطة دول عدائية تتحكم في سبيلها إلى المواد الخام والأسواق، وتجبرها على تقليد أعدائها - مثل أي شعب محاصر - وتأسیس دكتاتورية حكومية على جميع وجوه حياتها التي تمتعت بالحرية وإثارة الحوافز؟ وهل يجب على زعماء أمريكا ألا يفكروا في شيء سوى نفور هذا الجيل الأبيقوری من مواجهة قضية كبيرة كهذه، أم يجب عليهم أن يفكروا أيضا فيما سوف تتمناه الأجيال المقبلة من الأمريكيين على أيديهم؟ أليس الأحكم أن نقاوم على الفور، وأن ننقل الحرب إلى معسكر العدو، وأن نحارب على أرض أجنبية، وأن تضح إذا لزم الأمر بمائة ألف من الأرواح الأمريكية، وربما بمليون من غير المقاتلين، لا لشيء إلا لكى نتيح لأمريكا أن تعيش حياتها في أمن وحرية ؟ أليست هذه السياسة البعيدة النظر متسقة تمام الإتساق مع دروس التاريخ؟
يجيب الفيلسوف: أجل، وسوف تتسق النتائج المروعة مع التاريخ، باستثناء أنها سوف تتضاعف بالنسبة لزيادة عدد القوات المقاتلة وقدرتها على التحرك والقوة التدميرية غير المسبوقة للأسلحة المستخدمة. ولكن ثمة ما هو أكبر من التاريخ وأعظم. فباسم الإنسانية يجب علينا أن نتحدي ألف سابقة شريرة، في مكان ما، في وقت ما، وأن نجرؤ على تطبيق القاعدة الذهبية على الأمم، مثلما فعل الملك البوذي أشوكا (عام 292 ق.م) أو نقوم على الأقل بما قام به أغسطس حين دعا طيبريوس إلى الكف عن غزو ألمانيا
عام 9م) . فلنرفض، مهما كلفنا ذلك، أن نصنع مائة هيروشيما في الصين. وقد قالى إدموند بيرك «إن الشهامة في السياسة ليس من النادر أن تكون أصوب حكمة، فالإمبراطورية العظيمة لا تتفق مع العقول الصغيرة» وتخيل رئيساً أمريكياً يقول لزعماء الصين وروسيا :
"إذا وجب علينا أن نتبع المجرى المألوف للتاريخ فيجب أن نشن الحرب عليکم، خوفا من أن تشنوها علينا بعد جيل. أو يجب أن نأخذ بالسابقة المؤسفة التي حققها التحالف المقدس عام 1810،. فنوقف ثروتنا وخيرة شبابنا على قمع أية ثورة ضد النظام الكائن في أي مكان. ونحن نكن الاحترام لشعوبكم وحضاراتكم، وبعدها من أكثر الشعوب والحضارات طاقة على الإبداع في التاريخ. وسنحاول أن نفهم مشاعركم ورغبتكم في تطوير مؤسستكم بلا خوف من أي هجوم. ويجب ألا نسمح لمخاوفنا المشتركة بأن تقودنا إلى الحرب، لأن طاقة الهلاك الفريدة التي تتمتع بها أسلحتنا وأسلحتكم تضفي على وضعنا عنصرا لم يألفه التاريخ. ونقترح أن نرسل ممثلین کی ينضموا إلى ممثليكم في مؤتمر دائم من أجل تسوية خلافاتنا، ووقف أعمال العداء والتخريب، وتخفيض أسلحتنا. وحيثما نجد أنفسنا في منافسة معكم س خارج حدودنا - على ولاء شعب من الشعوب، ستكون على استعداد للإذعان للاقتراع الكامل والعادل من جانب الشعب المذكور. فلنفتح أبوابنا لكل منا، ولنرتب ألوان التبادل الثقافي التي تشيع التقدير والفهم المشتركين. ونحن لا نخشى أن يحل نظامكم الاقتصادی محل نظامنا، ولستم بحاجة إلى الخوف من أن يحل نظامنا محل نظاكم. فنحن نؤمن بأن كل نظام سيتعلم من الآخر، ويقدر على معايشته في تعاون وسلام. وربما استطاع كل منا، وهو يقيم دفاعاته الملائمة، أن يرتب معاهدات عدم اعتداء وتدمير مع الدول الأخرى. ومن هذه الاتفاقيات يتشكل نظام دولي تحتفظ فيه كل أمة بسيادتها وفرديتها، ولا يتقيد إلا بالاتفاقات التي توقعها كل منها عن طيب خاطر. ونحن نطلب منكم الانضمام إلينا في هذا التحدي للتاريخ، هذا العزم على مد الكياسة والحضارة بحيث تشملان العلاقات بين الدول. ونتعهد أمام جميع البشر بالدخول في هذا المشروع بكامل الإخلاص والثقة. وإذا خسرنا في هذه المقامرة التاريخية فلا يمكن أن تكون النتائج أسوأ من تلك التي نتوقعها من استمرار السياسات التقليدية. وإذا نجحنا، نحن وأنتم، فسوف نستحق مكانا - طوال قرون مقبلة - في ذاكرة البشرية الشاكرة للجميل".
غير أن الجنرال يبتسم، ويقول:
"لقد نسيت جميع دروس التاريخ وما يتعلق بطبيعة الإنسان مما صورته. فبعض النزاعات من الجوهرية بحيث تستعصي على المفاوضة. وخلال المفاوضات الطويلة (إذا استرشدنا بالتاریخ) سوف يستمر التخريب والتدمير. والنظام العالمى لا يتحقق باتفاقية جنتلمان تقوم على كلمة الشرف، وإنما يتحقق من خلال انتصار إحدى الدول العظمى انتصارا يكون من الحسم بحيث يمكنها من فرض القانون الدولي وتنفيذه، مثلما فعلت روما ابتداء من أغسطس إلى أورلیوس. ومثل هذه الفواصل من السلام الواسع المدى غير طبعية، واستثنائية . فسرعان ما تنتهي بالتغيرات في توزيع القوة العسكرية. وقد قلت لنا إن الإنسان حيوان تنافسي، وإن الدول التي يقيمها يجب أن تكون على شاكلته، وإن الانتخاب الطبعی قائم اليوم على صعيد دولي. والدول لا تتحد وتعاون تعاوناً جوهرياً إلا حين تتعرض على نحو مشترك للهجوم من الخارج. ولعلنا اليوم نتحرك قلقين صوب ذلك المستوى الأعلى في المنافسة. وقد نقيم علاقة مع جنس طموح على الكواكب أو النجوم الأخرى. وبعدها سرعان ما تنشب حرب بين الكواكب.
وعند ذاك، عند ذاك وحسب، سوف نتحد نحن أهل هذه الأرض".